فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واختلف قول مالك وأصحابه في ذلك ولم يختلفوا في قتالهم إذا تحيزوا فئة وأنهم يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا وإنما اختلفوا في المنفرد منهم فأكثر قول مالك وأصحابه ترك القول بتكفيرهم وترك قتلهم والمبالغة في عقوبتهم وإطالة سجنهم حتى يظر إقلاعهم وتستبين توبتهم كما فعل عمر رضي الله عنه بصبيغ. وهذا قول محمد بن المواز في الخوارج وعبد الملك بن الماجشون وقول سحنون في جميع أهل الأهواء وبه فسر قول مالك في الموطأ وما رواه عن عمر بن عبد العزيز وجده وعمه من قولهم. في القدرية يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا، وقال عيسى بن القاسم في أهل الأهواء من الإباضية والقدرية وشبههم ممن خالف الجماعة من أهل البدع والتحريف لتأويل كتاب الله: يستتابون أظهروا ذلك أو أسروه، فإن تابوا وإلا قتلوا وميراثهم لورثتهم.
وقال مثله أيضا ابن القاسم في كتاب محمد في أهل القدر وغيرهم قال: واستتابتهم أن يقال لهم اتركوا ما أنتم عليه ومثله في المبسوط في الإباضية والقدرية وسائر أهل البدع قال: وهم مسلمون، وإنما قتلوا لرأيهم السوء وبهذا عمل عمر بن عبد العزيز.
قال ابن القاسم: من قال إن الله لم يكلم موسى تكليما استتيب، فإن تاب وإلا قتل، وابن حبيب وغيره من أصحابنا يرى تكفيرهم وتكفير أمثالهم من الخوارج والقدرية والمرجئة. وقد روي أيضا عن سحنون مثله فيمن قال: ليس للَّه كلام، أنه كافر، واختلفت الروايات عن مالك فأطلق في رواية الشاميين أبي مسهر ومروان بن محمد الطاطري الكفر عليهم وقد شوور في زواج القدري فقال: لا تزوجه، قال الله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ من مُشْرِكٍ} [2: 221] وروي عنه أيضا: أهل الأهواء كلهم كفار: وقال: من وصف شيئا من ذات الله تعالى وأشار إلي شيء من جسده يد أو سمع أو بصر قطع ذلك منه، شبه الله بنفسه.
وقال فيمن قال: القرآن مخلوق فاقتلوه، وقال أيضا في رواية ابن نافع: يجلد ويوجع ضربا ويحبس حتى يتوب، وفي رواية بشر بن بكر التنيسي عنه يقتل ولا تقبل توبته.
قال القاضي أبو عبد الله البرنكاني والقاضي أبو عبد الله التستري من أئمة العراقيين: جوابه مختلف، قتل المستبصر الداعية وعلى هذا الخلاف اختلف قوله في إعادة الصلاة خلفهم، وحكي ابن المنذر عن الشافعيّ:
لا يستتاب القدريّ، وأكثر أقوال السلف تكفيرهم، وممن قال به الليث وابن عيينة وابن لهيعة، وروي عنهم ذلك فيمن قال بخلق القرآن، وقال ابن المبارك والأودي ووكيع وحفص بن غياث وأبو إسحاق الفزاري وهشيم وعلي بن عاصم في آخرين. اهـ.

.تفسير الآية رقم (62):

قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
أخبر أنهم يخشون على دمائهم فيصلحون ظواهرهم حفظًا لها بالأيمان الكاذبة فقال: {يحلفون بالله} أي الذي له تمام العظمة {لكم} أي أنهم ما آذوا النبي صلى الله عليه وسلم خصوصًا ولا أولادكم بالمخالفة عمومًا؛ وبين غاية مرادهم بقوله: {ليرضوكم}.
ولما كان الرسول عليه الصلاة والسلام ليس بأذن بالمعنى الذي أرادوه، بين أنه لم يكن راضيًا بإيمانهم لعدم وقوع صدقتهم في قلبه ولكنه أظهر تصديقهم لما تقدم من الإصلاح فقال: {والله} أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه {ورسوله} أي الذي هو أعلى خلقه، وبلغ النهاية في تعظيمه بتوحيد الضمير الدال على وحدة الراضي لأن كل ما يرضي أحدهما يرضي الآخر فقال: {أحق أن} أي بأن {يرضوه} ولما كان مناط الإرضاء الطاعة ومدار الطاعة الإيمان، قال معبرًا بالوصف لأنه مجزأه: {إن كانوا مؤمنين} أي فهم يعلمون أنه أحق بالإرضاء فيجتهدون فيه، وذلك إشارة إلى أنهم إن جددوا إرضاءه كل وقت كان دليلًا على إيمانهم، وإن خالفوه كان قاطعًا على كفرانهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)}
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائح أفعال المنافقين وهو إقدامهم على اليمين الكاذبة.
قيل: هذا بناء على ما تقدم، يعني يؤذون النبي ويسيؤون القول فيه ثم يحلفون لكم.
وقيل: نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتوه واعتذروا وحلفوا، ففيهم نزلت الآية، والمعنى: أنهم حلفوا على أنهم ما قالوا ما حكي عنهم، ليرضوا المؤمنين بيمينهم، وكان من الواجب أن يرضوا الله بالإخلاص والتوبة، لا بإظهار ما يستسرون خلافه، ونظيره قوله: {وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا} [البقرة: 76].
وأما قوله: {يُرْضُوهُ} بعد تقدم ذكر الله وذكر الرسول ففيه وجوه: الأول: أنه تعالى لا يذكر مع غيره بالذكر المجمل، بل يجب أن يفرد بالذكر تعظيمًا له.
والثاني: أن المقصود بجميع الطاعات والعبادات هو الله، فاقتصر على ذكره.
ويروى أن واحدًا من الكفار رفع صوته.
وقال: إني أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد، فسمع الرسول عليه السلام ذلك وقال: «وضع الحق في أهله».
الثالث: يجوز أن يكون المراد يرضوهما فاكتفى بذكر الواحد كقوله:
نحن بما عندنا وأنت بما ** عندك راض والرأي مختلف

والرابع: أن العالم بالأسرار والضمائر هو الله تعالى، وإخلاص القلب لا يعلمه إلا الله، فلهذا السبب خص تعالى نفسه بالذكر.
الخامس: لما وجب أن يكون رضا الرسول مطابقًا لرضا الله تعالى وامتنع حصول المخالفة بينهما وقع الاكتفاء بذكر أحدهما كما يقال: إحسان زيد وإجماله نعشني وجبرني.
السادس: التقدير: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك وقوله: {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} فيه قولان: الأول: إن كانوا مؤمنين على ما ادعوا.
والثاني: أنهم كانوا عالمين بصحة دين الرسول إلا أنهم أصروا على الكفر حسدًا وعنادًا، فلهذا المعنى قال تعالى: {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} وفي الآية دلالة على رضا الله لا يحصل بإظهار الإيمان، ما لم يقترن به التصديق بالقلب، ويبطل قول الكرامية الذين يزعمون أن الإيمان ليس إلا القول باللسان. اهـ.

.قال السمرقندي:

ثم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلفوا، فأخبر الله تعالى أنهم كاذبون في حلفهم، فقال: {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} بحلفهم الكاذب.
{والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ}.
قال الزجاج: لم يقل أحق أن يرضوهما، لأن في الكلام دليلًا عليه، لأن في رضى الله تعالى رضى الرسول صلى الله عليه وسلم، فحذف تخفيفًا.
ومعناه والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه، كما قال الشاعر:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بَمَا ** عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ

أي نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راضٍ؛ ويقال: يكره أن يجمع بين ذكر الله تعالى وذكر الرسول في كتابة واحدة، ويستحب أن يكون ذكر الله تعالى مقدمًا وذكر النبي عليه السلام مؤخرًا.
وذكر في بعض الأخبار أن خطيبًا قام عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى فقال النبي عليه السلام: «بِئْسَ الخَطِيبُ أَنْتَ» لأنه كان يجب أن يقول: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى.
ثم قال: {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}، يعني: مصدقين بقلوبهم في السر. اهـ.

.قال الثعلبي:

{يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ}
قال قتادة والسدّي: اجتمع نفر من المنافقين منهم جلاس بن سويد وذريعة بن ثابت فوقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: لئن كان ما يقول محمد حق لنحن شر من الحمير، وكان سمعهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس، فحقروه وقالوا هذه المقالة، فغضب الغلام وقال: والله إنّ ما يقوله محمد حق وأنتم شر من الحمير، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا إن عامرًا كذّاب، وحلف عامر أنهم كذبة، فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم فجعل عامر يقول: اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب، وقد كان قال بعضهم في ذلك: يا معشر المنافقين والله إني شر خلق الله، لوددت أني قدمت فجلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال مقاتل والكلبي: نزلت هذه الآية في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلمّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم من تخلّفهم، ويطلبون ويحلفون، فأنزل الله: {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} وقد كان حقه يرضوهما وقد مضت هذه المسألة، قال الشاعر:
ما كان حبك والشقاء لتنتهي ** حتى يجازونك في مغار محصد

أي الحبل. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {والله}
مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها، والتقدير عنده والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه وهذا كقول الشاعر: [المنسرح]
نحن بما عندنا وأنت بما عن ** دك راضٍ والرأي مختلفُ

ومذهب المبرد أن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، وتقديره والله أحق أن يرضوه ورسوله قال وكانوا يكرهون أن يجمع الرسول مع الله في ضمير، حكاه النقاش عنه، وليس هذا بشيء، وفي مصنف أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما» فجمع في ضمير، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر «بئس الخطيب أنت» إنما ذلك وقف في يعصهما فأدخل العاصي في الرشد، وقيل الضمير في {يرضوه} عائد على المذكور كما قال رؤبة: [الرجز]
فيها خطوطٌ من سوادٍ وبلقْ ** كأنَّه في الجلد توليعُ البهقْ

وقوله: {إن كانوا مؤمنين} أي على قولهم ودعواهم، وقوله: {ألم يعلموا} الآية، قولهم: {ألم} تقرير ووعيد، وفي مصحف أبي بن كعب {ألم تعلم} على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو وعيد لهم، وقرأ الأعرج والحسن {ألم تعلموا} بالتاء، و{يحادد} معناه يخالف ويشاق، وهو أن يعطي هذا حده وهذا حده لهذا، وقال الزجاج: هو أن يكون هذا في حد وهذا في حد، وقوله: {فإن} مذهب سيبويه أنها بدل من الأولى وهذا معترض بأن الشيء لا يبدل منه حتى يستوفى، والأولى في هذا الموضع لم يأت خبرها بعد إذ لم يتم جواب الشرط، وتلك الجملة هي الخبر، وأيضًا فإن الفاء تمانع البدل، وأيضًا فهي في معنى آخر غير الأول فيقلق البدل، وإذا تلطف للبدل فهو بدل الاشتمال وقال غير سيبويه: هي مجردة لتأكيد الأولى وقالت فرقة من النحاة: هي في موضع خبر ابتداء تقديره فواجب أن له، وقيل المعنى فله أن له، وقالت فرقة: هي ابتداء والخبر مضمر تقديره فإن له نار جهنم واجب، وهذا مردود لأن الابتداء بـ {أن} لا يجوز مع إضمار الخبر، قاله المبرد: وحكي عن أبي علي الفارسي قول يقرب معناه من معنى القول الثالث من هذه التي ذكرنا لا أقف الآن على لفظه، وجميع القراء على فتح {أن} الثانية، وحكى الطبري عن بعض نحويي البصرة أنه اختار في قراءتها كسر الألف، ذكر أبو عمرو الداني أنها قراءة ابن أبي عبلة، ووجهه في العربية قوي لأن الفاء تقتضي القطع والاستئناف ولأنه يصلح في موضعها الاسم ويصلح الفعل وإذا كانت كذلك وجب كسرها. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ}
قال ابن السائب: نزلت في جماعة من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم، أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم، ويحلفون ويعتلّون.
وقال مقاتل: منهم عبد الله بن أُبيّ، حلف لا يتخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولَيكونَنَّ معه على عدوِّه.
وقد ذكرنا في الآية التي قبلها أنهم حلفوا أنهم ما نطقوا بالعيب.
وحكى الزجاج عن بعض النحويين أنه قال: اللام في {ليرضوكم} بمعنى القسم، والمعنى: يحلفون بالله لكم لنرضينَّكم.
قال: وهذا خطأٌ، لأنهم إنما حلفوا أنهم ما قالوا ما حكي عنهم ليُرضُوا باليمين، ولم يحلفوا أنهم يُرضُون في المستقبل.
قلت: وقول مقاتل يؤكد ما أنكره الزجاج، وقد مال إليه الأخفش.
قوله تعالى: {واللهُ ورسولهُ أَحقُّ أن يُرضُوه} فيه قولان:
أحدهما: بالتوبة والإِنابة.
والثاني: بترك الطعن والعيب.
فإن قيل: لم قال: {يُرضُوه} ولم يقل: يرضوهما؟ فقد شرحنا هذا عند قوله: {ولا ينفقونها في سبيل الله} [التوبة: 34]. اهـ.